حي عابدين
حي عابدين أقدم أحياء القاهرة الأوروبية التي أسسها الخديو اسماعيل فهو يحمل اسم قصرها الملكي الذي اتنزع مقر الملك من قلعة صلاح الدين الايوبي بعد أن هيمنت عليه قررنا عديدة ، وسكنه الباشوات والأمراء وكبار التجار وخليط من الأجناس التى استعانت بها الاسرة العلوية لانجاز مشروعاتها التحديثية وايضا التي دستها القوى الاستعمارية لتسهيل استنزاف خبرات مصر وتعطيل استقلالها كما أن اسمه يرجع الى القائد الذي استعان به محمد على في القضاء على الممالك وتثبيت اركان حكمة في مصر .
غير أن مجاورة الحى لقصر عابدين الذي كان بمثابة خشبة مسرح سياسی ازدحمت بكافة الوجوه التي تحكمت في مقدرات الشعب المصرى معظم أيام الأسرة العلوية جعلته اشبه بكواليس مظلمة وهامسة لمسرح متلأليء بمعنى انها اخضعته لدور المطبخ المتسع والغامض الذي انضج وجهز كل ما يحتاج اليه لاعبو القصر أو الخشبة وعلى راسهم ولاة وملوك الاسرة العلوية ، ابتداء من طهي أشهى المأكولات وتطريز أفخر وأندر الملبوسات الملكية وانتهاء بتدبيج المعلومات والوشايات اللازمة للقرارات والمراسيم التي اتخذوها طوال أكثر من مائة عام لذلك فإن الحي شهد حتى التخمة ذروة مجد وتألق وبذخ الاسرة العلوية، ثم اصطلى بنار انكسارها وزوالها الى الأبد .. شهد وشارك في مواكب الخديو اسماعيل وهو يؤسس القاهرة على طراز افخم العواصم الأوروبية وتنسم عطور ضيوفه من السلطان العثماني حتى لوردات وأمراء أوربا كما صنع وروج الحقائق والشائعات التي غاصت في أدق تفاصيل حياتهم.
– الأغوات كانوا أبرز وأنزه سكان الحي في بداية هبوب الرياح الملكية عليه، وكان يسمح لهم بمصاحبة نساء عليه القوم في كافة شئونهم بما فيها ملازمتهن اثناء الاستحمام فلا خوف منهم لأنهم والسيدات سواء فهم كما يدل اسمهم ” خصيان ” فقدوا ذكورتهم منذ الطفولة وكان أشهرهم في الحي” خليل أغا” خادم الخديو اسماعيل ووالدته ” الوالدة باشا ” وبفضل عطاياهما أصبح من كبار أثرياء مصر في ذلك الوقت فقد امتلك أوقافا هائلة ضمنها عمارات سكنية في حي القلعة كانت معروفة باسمه وإلى الآن توجد مدرسة باسمه في العباسية ملابس خليل أغا كان يختارها الخديو اسماعيل بنفسه فهو خادمه الخاص الذي كان يقدم له فنجان القهوة ويؤدى له كل حاجاته الشخصية في طاعة وخضوع لأن الطاعة بالنسبة لمهنته لا تكفى بل يجب أن يؤدی مراسم الخضوع الأفندينا ولى النعم فينحني عند المثول بين يديه ، ويتراجع الى الوراء عندما يأمره بالانصراف .
وكان زبه الرسمي عبارة عن بدلة اسطمبولی سوداء ذات أزرار مقفولة حتى العنق وقميص أبيض ذي باقة واساور منشاة وعريضه بزراير، ذهبية أما الحذاء فهو من الجلد الأسود اللامع الذي يتناسب مع الطربوش الأحمر .
موضة الأغوات انتشرت في قصور أمراء وباشاوات الحي والقاهرة برمتها في عهد الخديو اسماعيل ولكن لم يستطيع احدهم تقلید زی «خليل أغا» ، ليس الارتفاع ثمنه بالطبع ، ولكن خشية الاتهام بمنافسة أزياء خدم الخديو فقد كانت الأسرة العلوية تحرص على التفرد والتميز عن الشعب في كافة شئونها الخاصة ومما يروى في ذلك أنه بمجرد أن صنعت الراقصة «شفيقة القبطية» لنفسها عربية تشبه عرية الخديو عباس حلمى الثاني قامت قيامة قصر عابدين ، غير أن الخديو المسكين لم يستطيع منع الراقصة من التشبه به وذلك لأن كرومر المندوب السامي البريطاني او الحاكم الفعلي لمصر في ذلك الوقت منعه بقسوة حتى يثبت للمصريين سيطرته عليه ، أما الملك فؤاد فقد أعد لنفسه ركائب ملكية من سيارات الرولزرويس والموتوسيكلات واختار لونا أحمر مميزا حرم استخدامه على الشعب .
سعيد ذو الفقار كان أشهر باشاوات حي عابدين في بداية تاريخه الملكي ، فقد كان كبير الأمناء في قصر عابدين وكان قصره في شارع «قوله» وعند بابه كان يجلس بشكل دائم أغا بيده عصا غليظة يهش بها اطفال الحي، فقد كان الأغوات بسبب أناقتهم وطراوتهم المبالغ فيها عرضة لعبث صبيان الحي الذين كانوا يعاكسونهم حتى يسمعوا أصواتهم الناعمة ما كما كان الأغا أجرودي لا ينبت الشعر في لحيته او شاربه والشيء العجيب أن هؤلاء الاغوات كانوا لا يذكرون اسماءهم الحقيقة لذلك لم يعرف منهم سوى القليل ومنهم «خليل اغا» ومكافور الإخشيدي» الذي تولى ملك مصر وكانت له مع المتبنى وقائع شهيرة سجلها في عدد من القصائد.
أعيان حي عابدين من المصريين كانوا يتقربون لقصر عابدين ببعض الهدايا الموسمية ومنهم أحد التجار الذي كان يرسل كل عام اثني عشر أردبا من القمح قبل موسم عاشوراء هدية للخديو اسماعيل حتى يصنع منها “العاشورة ” على عادة المصريين كما كان الخديو يرسل الى جيرانه في الحي صواني الأطعمة الفاخرة في غرة شهر رمضان وليلة القدر وكذلك الحلوى في عيد الفطر .
وفي نفس الوقت كان أبناء الحي من المصريين على عداء تام مع سكانه من الباشاوات الأتراك والشراكسة الذين بدأوا يبنون قصورهم على أرضه الى جانب بيوت وقصور المصريين في عهد اسماعيل مثل قصر «سلطان باشا، والد هدی شعراوي الذي كان يمتد في الحي من جامع شركس إلى شارع هدى شعراوی وفي جزء من أرضه الآن وكالة أنباء الشرق الأوسط كما كان قصر محمود حمدی الفكلي وقصر احمد عرابي باشا في المنطقة التي يتوسطها ميدان الفكلى الآن وبالقرب منها كان قصر محمود باشا سليمان والد محمد محمود باشا رئيس وزراء مصر في العهد الملكي .
غير أن قصور ومعاملات باشاوات الأتراك في الحي كانت لها سمات خاصة من أهمها جلوس الأغوات أمام أبوابها ورفض اصحابها التعامل مع أبناء البلد بل واحتقارهم ومما يدلل على ذلك انه عندما بنى احدهم قصره في شارع قوله بجوار بيت احد التجار تعمد ان يعزله تماما عن بيت هذا الرجل البلدي ، فبنى
جدرة عالية حجب الشمس والهواء عن بيت التاجر الذي بجميع الطرق أن يقنعه بهدم الجدار لكنه رفض بغطرسة شديدة متباهية ومهددا بنفوذه التركي ، فاضطر التاجر الى اللجوء للحيلة والدهاء وحاربه بنفس الأسلوب، في ذلك الوقت من عادة الخديو توفيق المرور بأرض الحي في طريقه لمحطة باب اللوق فاتنظر التاجر موكبه الخارج من قصر عابدين وفي يده جاموسة ضخمة وبمجرد ان اقترب الموكب منه أمر صبيانه بذبح الجاموسة في عرض الشارع فانبثق الدم وتوقف الموكب فأطل توفيق من عربته ليرى ماذا يحدث واستدعى التاجر ليعرف سبب ذبحه للجاموسة أمام الموكب، فأخبره انها احتفال بقدومه وان سيوزع لحمها على الفقراء وبمجرد ان طرب الخديو لهذا الإطراء أشار التاجر إلى جدار الباشا الذي حرمه من الشمس فالتفت توفيق الى المكان واصدر أمرا فورية بهدم الجدار .
حي عابدين في بداياته كان ساحة ساخنة لأسرار الأسرة العلوية، بما فيها التي لا تتورع عن انتهاك شرفها ويكون مكان وقوعها حجرة نوم الخديو أو الملك، ومن أكثر منه تعرضت سيرتهم لانتهاك حكايات أبناء الحي الأميرة زينب ووالدها الخديو اسماعيل فقد روى أبناء الحي عن مجونها وتحررها ومغامراتها العاطفية الملتهبة كما تناقلوا قصصا متعددة من القهوة المسمومة التي اعتمد عليها الخديو اسماعيل في الخلاص من أعدائه ومعارضيه كما تناقلوا قصصا تشبه الاساطير عن مغامراته النسائية .
الاميرة زينب كانت تمر يوميا من أرض الحي في عربة ملكية مفلقة الأبواب ومسدلة الستائر كانت تعرف باسمها ونظرا لشهرتها وإعجاب الناس بها استغلها أحد أهالي الحي في إقامة مشروع تجاری در عليه ربح كثيرا، فقد قام بصناعة عربة تشبهها تماما واطلق عليها اسم الأميرة زينب وخصصها لزفاف العرسان من داخل الحي وخارجه فذاع صيته وكثرت أمواله وتوافد عليه العرسان من كافة أنحاء القاهرة . .
زفة عرائس الحي في عربة الأميرة زينب كانت تتميز بشكل خاص فقد كانت العروس تركب هذه العربة الملكية مع أمها وأخواتها ثم يبدأ الركب في التحرك من منزل العروس مخترقا الشوارع التي يختارها أصحاب الفرح حتى يصل الى جامع السيدة زينب ويعود تصحبه الدفوف والأغاني، وكان من العادات أن يتقدم فتوة الحي ركب الفرح على ارض حيه , فاذا دخل حيا آخر فلابد أن ينسحب ويسلم القيادة لفتوة هذا الحي واذا حدث خلاف بين الاثنين يتحول الفرح الى مذبحة .
أمين المالطي کان اخر فتوة يشهده الحى , وكان يتمتع بالحماية الانجليزية أيام الامتيازات الأجنبية , ورغم بطشة المتكرر بأبناء الحي لم يكن من حق البوليس المصري التعرض له إلا. في حضور القنصل البريطاني الذي اضطر الى نفيه الى جزيرة مالطا بعدما اعتدى على احد الرعايا الأجانب، غير أن هذا العقاب لم يزده الإ تطاولا وغيا بل وراح يتباهى بانه نفى الى نفس الجزيرة التي نفي إليها الزعيم سعد زغلول .
حي عابدين في بدايته الملكية كان عاما . كما هو الآن. بالمحلات الصغيرة , وأشهرها محل عبد الله الذي كان بالقرب من بيت الزعيم مصطفى كامل وتوجد به الآن مدرسة عابدين الابتدائية، وإلى جانب الكتب القديمة كان متخصصا في بيع الأفيون الذي كان يستعمل في الطب الشعبي, وكذلك الحشيش الذي كان مباحا تداوله في ذلك الوقت، وكان اهل الحي يعرفونه باسم ابو النوم الحمير كانت أهم وسائل مواصلات الحي بجوار عربات الباشاوات والأمراء وكان منها الملاكي والاجرة , والأولى كان أصحابها يبالغون في الاهتمام بها ويضعون على ظهورها البرادع الفاخرة , وبسبب ذلك كانت صناعة البرادع من أشهر الصناعات في القاهرة وكانت تصنع من القطيفة لحمير السادة من أبناء البلد وشيوخ الطوائف اللذين كانوا يقيمون سابقا للحمير في أرض المحمودی شرق القاهرة.
وكان سباق الحمير من أشهر المحافل الرياضية بالقاهرة بل كان عند ابناء البلد أهم من سباق الخيل الذي كان يرتاده أبناء الذوات. أما حمير الأجرة فقد اشتهرت في القاهرة ايام الحملة الفرنسية حتى ان نابليون بونابرت اعد لها مواقف خاصة على نواصى الشوارع وفي الميادين مثل السيارات بالضبط، كما حدد عدد حمير كل موقف وجعل لها تسعيرة ثابتة بسبب عراك العساكر الفرنسيين مع الحمارين نتيجة تفاوت الأجرة , ومما يروى من حكايات وطرائف الحمارين انهم هم الذين اطلقوا على بعقوب صنوع لقب ” ابو نظارة زرقا” لانه كان يضع نظاره على عينيه وهو يركب حميرهم , ويبدو أن اللقب اعجبه فقد روجه لدرجة انه اطلق على مجلته .
حی عابدین عرف جنسيات شتى انجليزية ويونانية وفرنسية وايطالية وتركية وارمنية ومن اشهر سكانه الاجانب الفنان ” سانتوس” رسام مجلة ” السياسة” الاسبوعية وصاحب الرسومات الشهيرة التي صاحبت مقالات الشيخ عبد العزيز البشري , ورسام الكاريكاتير الشهير “صاروخان” و ” يني” صاحب اقدم حانات حي عابدين وابنته ” ماريكا ” التي كانت تتميز بجمال خارق دفع ابراهيم بك حفيد الزعيم احمد عرابي الى التردد يوميا على حي عابدين والمكوث بالساعات في حانه پنی انتظارا لنظرة عابرة من ابنته ماریکا. كما سكن في الحي الخياط الايطالي او مندو” الذي قدم من روما خصيصا ليصنع ملابس السلطان حسين كامل الذي تولى العرش بعد عزل الخديو عباس حلمي الثاني بمعرفة الانجليز وكان حسين كامل عصبي المزاج شديد الغضب ولا يتورع عن القضاء على خصومه بكافة السبل وقيل انه قام هو وشقيقه الأمير حسن بإغراق إسماعيل باشا المفتش وزير المالية وصاحب افخم قصور الحى تحت كوبرى قصر النيل حتى لفظ أنفاسه الأخيرة عندما غضب عليه والدهما الخديو إسماعيل.