شارع عبدالخالق ثروت
شارع عبدالخالق ثروت ينتمي إلى القاهرة الأوروبية التي شيدها الخديو اسماعيل في القرن التاسع عشر سواء على مستوى أسلوب العمارة أو الاتساع ودقة التنظيم أو الموقع الجغرافي، فسكانه حتى قيام ثورة يوليو ۱۹۵۲ كان بينهم الكثير من الرعايا الأجانب، وبدايته من شارع رمسيس تقع بالقرب من ميدان التحرير (الاسماعيلية سابقا) وبعدها يقطع أهم شرايين قلب القاهرة (شمبليون وطلعت حرب وشريف وعماد الدين قبل أن يبلغ نقطة نهايته التي تقع أمام تمثال إبراهيم باشا تاج الأزبكية الذي بالغ الخديو اسماعيل في الاعتناء بمنشآتها وحدائقها لكي يتفاخر بها أمام ضيوفه ملوك وأمراء أوروبا الذين شدوا الرحال للقاهرة لحضور الاحتفالات الاسطورية التي صاحبت افتتاح قناة السويس، وأيضا لكي يصنع منها مركزا ثقافيا وفنيا ومعماريا جديرا بمجاورة قصر عابدين مقر الحكم في قاهرته الأوروبية.
قبل حوالى قرنين من جهود الخديو اسماعيل التي تمخضت عن تنظيم وتجميل شوارع الأزبكية، كان شارع عبدالخالق ثروت عبارة عن ساحة مهيأة تماما لراحة مختلف أنواع الحيوانات، خصوصا الجمال فعلى أيام المماليك كانت منطقة الأزبكية بما فيها الثلث الأخير من الشارع عامرة بتلال القاذورات والقمامة وأوكار القتلة واللصوص حول بركة راكدة، وفي عهد السلطان قايتبای بدأ الأتابك (أبوالامراء) ازيك بن ططخ تعميرها، واتخذ من أرض الشارع مناخا الجماله وخيوله، ومن يومها عرفت ارض الشارع باسم المناخ، وظلت تحافظ عليه . حتى بعد الإصلاحات الأوروبية التي بذلها الخديو اسماعيل.
الأمير ازبك بن ططخ ترجع اصوله الى مماليك السلطان الاشرف برسباى، ثم اشتراه الظاهر جقمق وزوجه تباعا من ابنتيه ووضعه في بداية طريق المناصب السياسية العليا فتدرج فيها حتى حصل على منصب نائب الشام، ثم تولى قيادة الجيش، واليه يرجع فضل تعمير المنطقة التي ينتهي بها الشارع، لذلك فهي تعرف باسمه حتى الآن.
عبدالخالق ثروت اسم الشارع الحالي هو أحد أبرز رجال السياسة في مصر في الثلث الأول من القرن العشرين.. ولد عام ۱۸۷۳ لاسترة تركية دخلت مصر مع الغزو العثماني وجمعت بين الشراء والتوغل في الحكم، فوالده اسماعيل عبدالخالق باشا كان يشغل منصب (روزنامجي) وتعني الآن وزير المالية، وجده كان من كبار رجال الحكم في اوائل عهد محمد على باشا.
منذ طفولته داوم عبدالخالق ثروت على النبوغ الدراسي وحصل على المركز الأول في كافة سنوات دراسته التي انهاها بالحصول على ليسانس الحقوق، ليبدأ حياته الوظيفية بالعمل في قضايا الدائرة السنية، وتدرج بسرعة في العديد من المناصب القضائية المهمة حتى اختير لمنصب النائب العام وهو مازال شابا.
في ذلك الوقت كانت مصر خاضعة للاحتلال الإنجليزي، ومن خلال عمله في مطبخ القضاء، وايضا من خبرات والده وجده حدد عبدالخالق ثروت بدقة معالم مستقبله السياسي، واقتنع بانه مرهون برضا الإنجليز عليه، فبالغ في خدمتهم، وبالفعل نجح في كسب ثقتهم، فعينه المستشار الانجليزي مالكوم مكلاريث الذي كان يشغل منصب النائب العام في الحكومة المصرية سكرتيرا له، بل وجعله مندوبا عنه في قضايا الاحتلال الإنجليزي، ومن جهود عبدالخالق ثروت المخجلة في هذا المنصب انه حضر ممثلا للجيش الانجليزي في القضية التي رفعها على صحيفة (المؤيد) وصاحبها الشيخ على يوسف وعامل التلغراف توفيق كيرلس ولكن لسوء حظهم وحظ مندوبهم عبدالخالق ثروت برأت المحكمة الشيخ على يوسف وصحيفته .
عبدالخالق ثروت عين في منصب وزير الحقانية (العدل) عام ۱۹۱۶، ومن خلاله بدأ يناوىء الجهود الوطنية التي كان يقوم بها حزب الوفد برئاسة سعد زغلول لتحرير البلاد لدرجة أنه قيل انه الذي حرض الانجليز على نفى سعد زغلول، ففضلا عن الإخلاص في خدمة الانجليز لم يتورع ثروت عن الوقوف ضد ارادة الشعب المصري في التحرر، وطالب الانجليز صراحة أبان ثورة ۱۹۱۹ بفرض إدارة مباشرة للقضاء على الاضطرابات، لذلك كان طبيعيا أن يخرج ثروت من وزارة العدل الى وزارة الداخلية لكي يتمكن من خدمة الانجليز بشكل أمثل، فواصل جهوده في قمع الشعب المصرى واقترف كافة الاجراءات العنيفة المنافية التقاليد الدستور في سبيل احكام قبضته التي هي قبضة الانجليز على البلاد، ولم يكن يتردد في الاستعانة بالاحتلال البريطاني لفرض الاحكام العرفية، والدليل انه طلب من السلطات البريطانية اتخاذ إجراءات عقابية بمقتضى الأحكام العرفية ضد مصطفى كامل رئيس الحزب الوطني لمجرد أنه أرسل برقية من خلال صحيفة (اللواء) الى السلطان فؤاد رأى فيها ثروت تطاولا على الأسرة الحاكمة لمجرد أنها ذكرت اسم أحد الأمراء مصحوبا بوصف الأمير السابق لذلك فقد كان عبدالخالق ثروت جديرا بان يصفه سعد زغلول قائلا (يقتل الحرية في الصدور ويطفىء جذوة الحمية في القلوب ويملأ المعاقل والسجون . من الأحرار، ويجعل جزاء الهتاف للاستقلال الإعدام بالحديد والنار).
في عام ۱۹۲۲ قبل عبدالخالق ثروت أن يتولى رئاسة الوزارة، وبذلك قطع اجماع السياسيين المصريين الذين اتخذوا من رفض هذا المنصب وسيلة للضغط على الانجليز حتى يقبلوا بالتفاوض حول استقلال مصر، وبالفعل ظل هذا المنصب شاغرا شهرين بعد استقالة عدلي يكن، فما كان من الانجليز الا أن جاءوا برجلهم القوى والمطيع عبدالخالق ثروت الذي أمعن في مصادرة حرية الصحافة ومنع العديد من اجتماعات السياسيين الذين يطالبون بالاستقلال الكامل، وكان يصدر أوامره اليومية للصحف بالامتناع عن نشر العديد من القضايا والأخبار والمواضيع لدرجة أن مراسل صحيفة (الديلي هيرالد) وصف تعامله مع الصحافة قائلا (إن صحف مصر سواء أكانت وطنية أو إنجليزية مكممة تماما، وأن جميع المعلومات التي تستقيها كل الصحف تقريبا تصدر عن رجلين أو ثلاثة يعبرون عن سياسة المندوب السامي البريطاني وعبدالخالق ثروت).
وفضلا عن ذلك فانه واصل تطبيق الأحكام العرفية بشكل مستبد وفي عهده كان الشباب يساقون أفواجا للسجون لمجرد التعبير عن المشاعر الوطنية أو تأييد الزعيم سعد زغلول.
وإلى جانب مصادرة اجتماعات المعارضة واحتجاجات الشباب وتعطيل الصحف المناهضة لسياسته، لم يتردد عبدالخالق ثروت في تطبيق الأحكام العرفية بشكل متعسف على اقطاب العمل السياسي في تلك الفترة ومنهم السيدة صفية زغلول التي حبسها في بيت الأمة ومنع أعضاء حزب الوفد من مجرد زيارتها.
كل تلك الإجراءات التعسفية التي جعلت كافة القوى السياسية في مصر تتحد ضده لم تشفع لعبدالخالق ثروت لدى أسياده الإنجليز فبعد مرور أشهر قليلة على تشكيل وزارة مارس فيها كل أشكال القهر على الشعب المصرى بدأت سلسلة من الاغتيالات للرعاية الانجليز في مصر.. وكانت اغتيالات منظمة لم تستطع اجراءات ثروت ايقافها، فأثار عليه الحكومة البريطانية وجعلها تضحى بتعاونه معها، مما مهد لتداعی وزارته، وفي تلك الأزمة وجهت اليه صحيفة (التايمز) البريطانية انتقادات لاذعة، بل واخذت عليه ما ظن طوال عمره انه يرضى الإنجليز عليه وهو مناهضة القوى الوطنية التي تؤيد الزعيم سعد زغلول .
ورغم أن ثروت لم يبد اعتراضا على هذا الهجوم، بل وقابله بالعديد من أساليب التهدئة والتماس المعاذير كاي عميل فشل في مهمته، الا انه تحت ضغط الانجليز والقوى الوطنية المصرية اضطر الى الاستقالة في 30 نوفمبر عام ۱۹۲۲ بعد انقضاء تسعة اشهر فقط على توليه مقاليد الحكم في البلاد.
عبدالخالق ثروت عاد للعمل السياسي مرة اخرى عام ۱۹۲۹ عندما اختاره عدلي يكن لمنصب وزارة الخارجية، وبعد عام واحد تولى رئاسة الوزارة للمرة
الثانية وواصل خدمته للانجليز بشكل أعمق وأكثر خبرة من خلال المفاوضات التي أجراها معهم حول وضعهم في مصر، فقد قدم فيها بصفته رئيسا للحكومة المصرية تنازلات وصلت إلى حد أنه أقر التواجد الاستعماري البريطاني في مصر، واعتبره حقيقة لا مناص منها، وبمقتضى ذلك وافق على بقاء قوة عسكرية بريطانية في مصر، وان يكون لهذه القوة مستشاران في الحكومة المصرية أحدهما مالى والآخر قضائي، وكذلك وافق على أن يكون تعليم الجيش المصرى وتدريبه قاصرا على الضباط الانجليز وبأساليب بريطانية، وربط سياسة مصر الخارجية بتوجهات السياسة البريطانية وكل ذلك يدلل على انه ظل على اخلاصه للانجليز وضد ارادة الشعب المصري في الاستقلال حتى نهاية مشواره السياسي.
شارع بعدالخالق ثروت يبدأ من ناحية شارع رمسيس بمبنى نقابة المحامين التي تتفرد بكونها أنشط نقابات مصر انفعالا ومشاركة في القضايا الوطنية، ومنذ فترة احتضنت الاعتصام الذي نفذه المثقفون والفنانون لدعم الشعب الفلسطيني، كما خرج منها حمدين صباحي وحسنين عضوي مجلس الشعب الى غياهب السجون أثناء مشاركتهما في مظاهرة تندد بالعدوان الأمريكي على العراق مارس ۲۰۰۳. ثم مبنى نقابة الصحفيين الجديد الذي يتميز ببذخ معماری واضح وينتظر افتتاحه بالشارع في نفس مكان مبنى النقابة القديم ويواجه كنيسة الطائفة الأرمنية بالقاهرة كما يجاور مبنى نادي القضاة الذي رغم انه ليس على المستوى المعماري لجارته إلا أنه قادر على ان يحفظ هيبة القضاة بالشارع.
العمارة الضخمة التي يملكها بنك الاستثمار العربي بالقاهرة تقع على ناصية شارع «شمبنيون» أمام الشركة المصرية للاستثمار البحرى، وبعدهما تظهر بشار عبدالخالق ثروت واجهة مبنى أنيق وهادىء يضم مقر السفارة السويسرية بالقاهرة الذي يجاور مركزا قديما لخدمة السيارات وعمارة تزهو شرفاتها بأناقة وزخرفات أسلوب عمارة بداية القرن العشرين.
بعد تقاطع شارع طلعت حرب يبلغ النشاط التجاري بالشارع ذروته من خلال عدد هائل من المحلات منها اللوفر وتيك تك التميمي وسنيور اميجو ومونديانا، ووسطها يستقر مقر شركة المقاولون العرب) بجوار محطة وقود يجری تجديدهما الآن، وتقع على مدخل صحيفة (الحياة المصرية ومكاتب شركة الشبراوي، وعلى الناحية المقابلة تطل العمارة التي كانت تحتوى على المقر القديم الصحيفة (الأهالي) ومجلة (اليسار) وباقي مطبوعات حزب التجمع قبل أن تنتقل الى مكانها الحالي في شارع كريم الدولة.
مكتبة الهيئة العامة للكتاب تواجه على تقاطع شارع شريف مكتبة دار المعارف، وبعدهما مكتبة الشعب تحرس ممرا قصيرا ينتهي بعمارة تضم البيت الفني للمسرح ومجلة ابداع التي يتولى رئاسة تحريرها الشاعر الكبير أحمد عبدالمعطي حجازی.
بنك القاهرة يتوسط بالشارع العديد من المحلات التجارية ومنها تورست شوب وشادی ولاكى توز، وجميعها تمهد لظهور واجهة كافيتريا الكاب دور التي تعتبر المكان المفضل للعديد من شباب الفنانين والمثقفين والصحفيين ومن ابرز روادها القدامى الفنان الراحل «رشدي أباظة» وقال أحد العاملين القدامى بها إنه كان كثيرا ما لا يجد ثمن مشروباته ويضطر الى تحرير شيكات وهمية الصاحب الكافيتريا اليوناني.
محل حلاوة يحتل بالشارع الطابق الأرضي من عمارة ضخمة تتوج تقاطع شارع عماد الدين، وتواجه مبنى لا يقل ضخامة يملكه المصرف العربي الذين ينافس بالشارع بنك مصر والبنك العربي الأفريقي.
جروبي يعتبر من أقدم وأعرق المحلات في الشارع بل وفي القاهرة بشكل عام، فقد تم تأسيسه عام ۱۹۰۹، وهو يمتاز بأناقة عمارته ويشتمل على مطعم كبير وصالة لتناول المشروبات، وكان قديما يحتوي على حديقة كبيرة أرتادها العديد من ألمع السياسيين والمثقفين والمفكرين في بداية القرن العشرين منهم الزعيم سعد زغلول وأقطاب حزب الوفد المصري، وداخلها انعقدت الجلسات والندوات التي مهدت وصاحبت ثورة 1919.
البنك الوطني المصري بعمارته الزجاجية المتطاولة يمهد لنهاية الشارع التي سرعان ما تصنعها باقتدار عمارة انيقة تغازل بجمال فتياتها تمثال إبراهيم باشا الذي يستعد للقفز في قلب ميدان العتبة.