الأرشيف

شارع الرويعي

 

شارع الرويعي

 

 

في المدن التاريخية الكبرى هناك شوارع عنيدة ترفض التغيير ولا تتأثر بالتقلبات السياسية والاجتماعية والمعمارية، وتظل قابضة بصلف . عبر قرون . على جمرة جوهرها القديم الأول رغم أنف عوادى الزمن وقسوة عوامل التعرية البشرية والطبيعية سواء على مستوى أسلوب العمارة أو النشاط أو نوعية البشر.. تلك الشوارع النادرة في صمودها لا تصلح بالطبع لرصد التقلبات السياسية والمعمارية، فهي جزر منعزلة في بحار المدن لا تتأثر بما يدور حولها وإن كانت تؤثر فيه، ولكنها في نفس الوقت مؤشر طبیعی حساس لرصد التطور الوئيد لطائفة من البسطاء، خصوصا الذين يتوارثون حرفة أصيلة لم يتجاوزها الزمن، فهي أشبه بصفحة تاريخية صادقة ومجهولة لم تعبث بها أمزجة المؤرخين واهواء الحكام، أو بصورة اسطورية التقطتها عين فنان من اعماق أعماق التاريخ المجموعة من البشر والمباني ومازالت تتمتع بواقعيتها وحيويتها حتى هذه اللحظة.. وكل لحظة، وقراءة ملامحها هي الأسلوب الأمثل لتأمل تاريخ الإنسانية وتطورها.

 

شارع الرويعي هو التجسيد الحى لعناد تلك الشوارع في مدينة القاهرة، ففي بدايته كان مما تجاريا مزدحما بالورش الصناعية الصغيرة، وجل سكانه الأوائل كانوا من التجار والحرفيين، واسمه يرجع الى السيد احمد الرويعي شاهبندر رئيس تجار مصر في القرن التاسع الهجري، وطوال تاريخه شهد صراعات المماليك التي أدت الى دحرهم، وتحمل ثقل غطرسة نابليون بونابرت وخلاعة جنود الحملة الفرنسية، ولم يكن بعيدا عن مؤامرات وتوازنات محمد على باشا

 

في بداية تربعه على عرش مصر، كما نظر شارع الرويعي بفزع إلى إصلاحات وتجديدات الخديو اسماعيل التى محت العديد من الشوارع والمنشآت التي كانت تلاصقه، وارتجف على سلامة اسمه من قادة ثورة يوليو ۱۹۵۲ الذين غيروا أسماء معظم الشوارع المحيطة به.. كل تلك الأهوال والتقلبات خرج منها شارع الرويعي قويا ومتمسكا بأسلوب عمارته البسيط والبدائی وبرائحة عرق سكانه الحرفيين وبشعاره التجاري المميز الذي يدافع عنه بجدارة حتى اليوم، فهو عبارة من سوق شعبية شهيرة تكاد تحتكر بعض البضائع ولا تكتفى بعرضها وبيعها بل تصنعها داخل العديد من الورش الصغيرة التي تتلاحم على جانبي الشارع وأبرزها ماكينات الخياطة ولوازم العمارات والموبيليا.

 

شارع الرويعي يبدأ من شارع كلوت بك وحافة الأزبكية التي كانت تتمتع بمكانة قلب القاهرة الثقافي والفني والسياسي على مدى سنوات، وينتهي بغابة من الحارات الضيقة وأبرز واقدم منشآته جامع الرويعي الذي شيده السيد أحمد الرويعي شاهبندر التجار وأمامه أقام ضريحه الذي يرقد به حتى الآن. وبالقرب من هذا الجامع كان يوجد قصرقائد أغا أبرز رجال مراد بك ومدير أمن القاهرة عام ۱۷۸٤. وعندما داهمت الحملة الفرنسية القاهرة حول نابليون بونابرت هذا القصر الى مقر دائم للديوان الذي شكله من العلماء والاعيان وبسبب تردد قادة الحملة عليه تعرض الشارع لعبث وجرائم الجنود الفرنسيين ومنها انهم هدموا جانبا من جامع الرويعي وحولوه الى خمارة كما أقاموا بأول الشارع ملهى كانوا يمارسون فيه ما اعتبره اهل القاهرة في ذلك الوقت نوعا من الفحش والخلاعة.

 

وفضلا عن جامع الرويعي يوجد على مشارف الشارع جامع آخر أنشأه قاسم بن الحاج محمد داده الشرايبي الذي ينتمي الى اسرة ثرية كانت تملك قصرة بالقرب من الشارع عرف باسم العتبة الزرقاء وبعدها آل الى عباس حلمي الأول فهدمه واعاد بناءه وسماه العتبة الخضراء ومنه اتخذ الميدان القريب من الشارع اسمه.
قاسم الشرايبي باني الجامع وقع ضحية لحادثة غريبة اودت بحياته ۱۷۳۶ . ففي ذلك الوقت كان الحلاقون هم الأطباء المعتمدون في القاهرة، وبينما كان

 

أحدهم يجري عملية فصد لقاسم الشرايبي بترخصيته فمات في الحال . والغريب انه لم يفقد حياته فقط بل وجامعه ايضا فقد عرف بعده باسم جامع على البكري وهو مجذوب اعتقد الناس بكراماته وكان يخلع ملابسه تماما ويمشي بالشارع كاشفا عورته بينما يده تقبض على نبوت طويل يرهب به المارة، وسبب اعتقاد الناس بكراماته أنه كان يقول كلاما غامضا ينصت إليه الناس ويستخرجون منه ما يشاؤون من المعاني والتنبؤات كل على حسب هواه ورغباته.

 

 

على البكري كان له اخ ميسور الحال وبسبب أفعاله المخجلة طرده من بيت الأسرة، ولكن عندما لاحظ اعتقاد الناس به والتفافهم حوله رأی آن من الحكمة أن يجعل منه مشروعا استثماريا مربحا فاعاده الى بيت الاسرة وخصص له مكانا مريحا يسمح باستقبال مريديه ومنعه من حلق لحيته ليحافظ على مهابته وغموضه . وبالفعل هب الناس الى زيارته محملين بالهدايا والنذور التي كان يتقبلها أخوه بفرح أكد نجاح المشروع، وظل على البكري على هذه الحال وأخوه يراكم الأموال والهدايا حتى توفي سنة ۱۷۹۲ أي قبل أن يداهم جنود الحملة الفرنسية أرض الشارع ودفن بهذا الجامع فنسب اليه واختفى اسم مؤسسه القاسم الشرايبي بل وأصبح البكري من أولياء الله الصالحين وتشد إليه الرحال من كل حدب وصوب والى فترة قريبة كان يقام له مولد كل عام.

 

 

معظم سكان الشارع منذ بدايته إلى الآن من التجار والحرفيين ولكن عندما د اختاره نابليون بونابرت ليكون مقرا لديوانه وساحة للترفيه عن جنوده سكن
الشارع بشكل مؤقت العديد من وجهاء القاهرة المتعاونين مع الحملة الفرنسية وابرزهم. محمد المهدي الحفني الذي كان من الشخصيات السياسية والدينية التي تمتعت بدور مؤثر في الأحداث ايام الفرنسيين والسنوات الأولى لحكم محمد على باشا.

 

محمد المهدي الحنفي ولد عام ۱۷۶۲ واسمه الأصلي هبة الله بن أبيفانيوس فوالده من الأقباط وأسلم في طفولته على يد الشيخ الحفني وفارق أهله بل ولم يتورع عن التبرأ منهم وانضم إلى الشيخ الذي رباه واقرأه القرآن وعلوم الدين ومنحه اسمه.

 

الشيخ محمد المهدي انضم الى علماء الأزهر الشريف وانشغل بالقاء الدروس خلفا للشيخ محمد الهلباوي الشهير بالدمنهوري، ومنه كما يقول الجبرتي نما أمره وذاع ذكره بعد صيته ولكي يكرس تلك المكانة تزوج بنت الشيخ الحریری مفتي الحنفية في ذلك الوقت ورزق منها بابنه محمد امين وهو والد الشيخ محمد المهدي العباسي الذي عين مفتيا للديار المصرية في عهد ابراهيم باشا وهو في الواحد والعشرين من عمره، كما عين شيخا للازهر سنة ۱۸۷۰ في عهد الخديو اسماعيل خلفا للشيخ مصطفى العروسي الذي يعد اول شيخ يعزل من مشيخة الأزهر الشريف فقبله وبعده كان من يتولى المشيخة يظل فيها طوال حياته.

 

المهدي العباسي مثل سلفه لم يعمر طويلا في المشيخة فقد عزله الغرابيون عندما رفض التوقيع على عريضة عزل الخديو توفيق ثم أعيد بعد فشل الثورة العرابية ثم عزل لمعارضته للحكومة في بعض القوانين وفي عهده بدات الخطوات الأولى في اصلاح التعليم في الأزهر بتحديد مدة الدراسة وترتيب الامتحانات وتقرير مرتبات ثابتة للعلماء.

 

 

الشيخ المهدى أشهر سكان الشارع في بداية القرن التاسع عشر تقرب من الأمراء المماليك فأوكلوا إليه الضربخانة (سك النقود والسلخانة والجوالی (الجزية على غير المسلمين)، وعندما دخل الفرنسيون مصر هرع اليهم فعينوه كاتم سر (سكرتيرا) لديوان العلماء والأعيان وحاز تقدير بونابرت نفسه لدرجة أنه وصفه في مذكراته بأنه اذكى علماء الأزهر وافصحهم لسانا واكثرهم علما واصغرهم سنا . وهذا إلاطراء رغم مبالغته يبدو (ترحما) هينا على المهدي بعد وفاته امام الخدمات العظيمة التي قدمها للفرنسيين على حساب مواطنيه وأهله أثناء حياته، ومنها أنه بأسلوبه البليغ أبدع اغلب المنشورات التي كان يذيعها الفرنسيون لتضليل الشعب المصرى . وربما يرجع ذلك إلى أن بونابرت يعرف بدقة أن «المهدی، قبض ثمار هذه الخدمات مضاعفة في حياته فقد عظم شأنه وكان محل الوساطة والشفاعة، أما أحواله المالية في تلك الفترة فقد لخصها الجبرتي في قوله (زاد ایراده وجمعه واحتوى بلادا وجهات وأرزاقا، وأقاموه . يقصد الفرنسيون – وكيلا عنهم في اشياء كثيرة وبلاد وقرى يجبى إليهم خراجها ويصرف منها مايصرفه ويأتيه الفلاحون منها ومن غيرها بالهدايا والأغنام والسمن والعسل وماجرت به العادة ويقدمون إليه دعاواهم وشكاواهم ويفعل بهم ما كان يفعله ارباب الالتزامات من الحبس والضرب واخذ المصالح وصار له أتباع وخدم من وجهاء الناس واذا ركب او مشي يمشون حوله وأمامه). . . المهدي ظل يتمتع بتلك المكانة في الشارع ومصر كلها إلى أن جاءت لحظة الانتقام في ثورة القاهرة الثانية فقد تعمد الثوار إهانته وحرقوا بيته الذي كان من أفخم منشآت شارع الرويعي غير انه لم يخسر شيئا كما اكد الجبرتي فلم يترك في البيت والشارع سوى بعض الحصر والخدم الذين كان يخطط للتخلص منهم أصلا.

 

 

بعد الفرنسيين لم تتأثر مكانة المهدي فقد استبدلهم بالعثمانيين الذين الت إليهم أمور البلاد، وتقرب الى شريف افندى الدفتردار (وزير الداخلية) فثبت مناصبه والتزاماته بل وأضاف إليها مناصب أخرى وفي ذلك يقول الجبرتي بحسرة (واضاف اليه ما ينتقيه من الديوان من غير مقابلة أو حلوان) والحلوان يعني البقشيش وكان يعطيه من استفاد من عملية معينة كوظيفة او التزام او غيرها لمن منحها له وهو عمولة او رشوة مقنعة لا تختلف عما يحدث هذه الأيام!؟ في عام ۱۸۰۹ وجد المهدی فرصة سانحة لاستبدال ولاء العثمانيين وقبلهم المماليك بالتقرب من محمد على باشا بعد أن استقر في حكم مصر ونفذ ذلك اقتدار، ففي هذا العام بدأ الجفاء بين محمد على والسيد عمر مكرم بسبب فرض محمد على لضرائب جديدة والغاء بعض الامتيازات المالية دون الرجوع إلى العلماء حسب العهد الذي بويع عليه وعندما انضم العلماء الى عمر مكرم في مطالبه وقع محمد علي في ورطة كادت تفقده منصبه لكنه سرعان ما تخلص منها بجهود الشيخ محمد المهدي الحفني الذي كسر تجمع العلماء حول السيد  القاهرة شوارع وحکایات عمر مكرم بان استمال بالتهديد والإغراء العديد منهم مما أدى الى وقوف السيد عمر مكرم وحيدا فتمكن محمد على من نفيه الى مدينة دمياط ليتجرع الام الموت وحيدة. : محمد على أنعم على المهدی باوقاف ضريح الامام الشافعى ووقف سنان باشا • احد الولاه العثمانيين كما منحه مبلغا كبيرا من المال نظير اجتهاده في خيانة عمر مكرم كما قال الجبرتي، غير أن المهدي لم يجد ذلك كافيا لخدماته وطمع في مشيخة الأزهر بعد وفاة شيخه عبدالله الشرقاوى وبالفعل أجمع فقهاء الشافعية وقاضي البلاد على تعيينه بل وبايعوه وصافحوه وقرأوا الفاتحة، لكن محمد على لم يعتد بهم وعين الشيخ محمد الشنواني شيخا للازهر فراح الشيخ محمد المهدي الحفنى صريع القهر من فقد المشيخة التي حلم بها طوال حياته ومات عام ۱۸۱۵ وشيعت جنازته من أرض الشارع.

 

شارع الرويعي يبدأ بمدخل ضيق مزدحم تتوجه عمارة ضخمة لا تناسب مطلقا ضالة مساحة وارتفاع معظم منشآته وبعدها تتجاور العديد من محلات وورش الستائر ولوازم العمارات والموبيليا وهي ابرز التخصصات التجارية للشارع.

 

مدرسة الرويعي تقع بالشارع على ناصية ممر شديد الضيق يوصل الى جراج العتبة وآخره من الناحية الأخرى يفتح على غابة من الحارات المتصدعة وتحتله بشكل شبه دائم عجوز غائبة عن الوعي.

 

المدرسة تحتوى على أحد مقرات اللجنة النقابية للمعلمين بحي الموسكى وأمامها فاترينة مثلجات على شكل طائر ويديرها بحماس بائع في مقتبل العمر وسط جمهرة من الأطفال يتنقلون بمرح بينه وبين الأرجوحة التي تقع في قلب الشارع وتديرها سيدة شابة ومربوط بها حمار بائس يبدو انه مل من ثقل نقلها يوميا لارض الشارع.. .
“جامع الرويعي الذي حوله الفرنسيون إلى «خمارة» يقع بالشارع بالقرب من عمارة حديثة ضخمة تحتل واجهتها شركة الشرق الأوسط ويواجه ضريح السيد .

 

أحمد الرويعي شاهبندر التجار وبعده يبدأ ثاني انشطة الشارع التجارية والصناعية. وهو ماكينات الخياطة وابرز محلاتها وورشها معرض الشرق ومؤسسة النصر وغيرهما وجميعها تتنسم روائح عطور حامد والحسين وباقي محلات حارة العطور وبعدها يبلغ الشارع نهايته وسط غابة من الحارات الضيقة.

Comments

  • No comments yet.
  • Add a comment