الروضة .. من قلعة حربية إلى حي سكني !!
جزيرة الروضة لم تكن موجودة في العصر الفرعوني . وبدأت أهميتها الحربية أيام الفتح العربي لمصر .. كانت مجرد جزيرة بين حصن بابليون حيث مقر الحكم البيزنطی الروماني وبر الجيزة . وكانت ذات منعة تزيد من قوة حصن بابليون لأنها كانت وسط النهر وتملك زمامه . وكانت في هذه الفترة تعرف باسم جزيرة مصر ، ولجأ إليها البيزنطيون أمام اكتساح المسلمين لمصر . لجأوا إليها بواسطة جسر من المراكب كان يصل بابليون بالجزيرة ، وعند حصار العرب لحصن بابليون تحصن الروم بجزيرة مصر هذه ، وأقاموا في حصونها في انتظار الفرج من القسطنطينية ، ولما لم يأت الفرج طلب المقوقس – عظیم مصر – الصلح . وعلى أراضي جزيرة الروضة هذه دارت مفاوضات الصلح بين مندوبی عمرو بن العاص ومندوبي المقوقس . ولما فشلت المفاوضات هرب الروم من الجزيرة ليتم الصلح في حصن بابليون ، وبعدها بقيت أسوارها وحصونها دون رعاية فتخربت حتى أيام ابن طولون . ••وبدأ الاهتمام بالجزيرة في العصر العربي ، ففي عام 54ه – 674م أقام الوالى فيها دارا لصناعة السفن في أعقاب هجوم البيزنطيين على البرلس في معركة خسرها العرب .
وفي عام 876م أعاد أحمد بن طولون بناء أسوارها وحصونها ، ومنذ ذلك الحين عرفت باسم جزيرة الحصن ، کا جعلها ابن طولون مقرا لخزائن أمواله ، ومقرا لديوان الجهاد ، وبنى فيها القصور . ولكن بعد وفاته طغت المياه على هذه القصور فدمرتها شيئا فشيئا ، إلى أن جاء محمد بن طغج الإخشید منشیء الدولة الإخشيدية عام ۳۲۱ه – ۹۳۲م، فبنى فيها بساتين ودارا ، سماها دار “المختار ” ، وذلك مكان دار الصناعة القديمة التي كان يبنى بها السفن الحربية . وظلت تقوم بدورها إلى أن أحرقها عام 934م بعض الخارجين على الإخشید . فبنی دارا جديدة للصناعة في الفسطاط على الشاطيء الأيمن للنيل ، واستمرت تعمل بعد أن دخلت عليها تحسينات كبيرة في العصر الفاطمي . وأقام الإخشيد دار المختار و بستانها في موقع دار الصناعة وانتهى عصر دار المختار ، ولكن بقي في موقعها شارع يحمل اسم .، شارع المختار تخليدا لهذه الدار الفخمة .
••وفي أيام الفاطميين أصبحت جزيرة الروضة من أجمل المتنزهات ، وأنشئت فيها الفيلات الكثيرة التي كانت تسمى ” المناظر “، أي التي يجلس فيها صاحب الشأن لينظر منها إلى ما حوله من جمال . ومنها وصلت إلينا كلمة ” المنظرة ” التي تحورت إلى “المندرة ” عند عامة الناس . وأشهر القصور أو المناظر الفاطمية تلك التي أقامها خليفة الآمر بأحكام الله، وسماها ” منظرة الهودج ” وأهداها لمحبوبته البدوية بجوار” قصر المختار”. ولما قدم المعز لدين الله إلى مصر من بلاد المغرب عام ۳6۲ ه ، اتخذها متنزها له ومن بعده لخلفائه ، ولهذا عرفت باسم « روضة مصر »، وهي أول مرة يظهر اسم “الروضة “. وصارت الجزيرة مدينة عامرة بالناس ، لها وال وقاض . وكان يقال في ديوان الخليفة الفاطمى عند الحديث عن العاصمة : « القاهرة .. ومصر .. و الجزيرة – اي الروضة ».
وفي عام 488ه أنشأ الأفضل شاهنشاه بن بدر الجالى في هذه الجزيرة مكانا للنزهة و التريض ، سماه “الروضة”. ومنذ ذلك الوقت صارت الجزيرة تعرف نهائيا باسم .. الروضة . وقد أكمل الأفضل شاهنشاه بستانه هذا المسمى «الروضة » عام 490 ه . 1096م وذلك في النهاية الشمالية للجزيرة ؛ أي في الموقع الذي أقيم فيه مستشفى المنيل الجامعي وفندق ميريديان الجديد . ويوضح كل هذا مدى عناية الفاطميين وأمرائهم بموقع الروضة التي صارت متنزها ومسكنا للأهالى . وفي العصر الأيوبي أصبحت الجزيرة بما تحتويه ملكا لابن أخي السلطان صلاح الدين ، ولما تولى العرش الملك الصالح نجم الدين أيوب ، قرر بناء قلعة الروضة أو القلعة الصالحية فاستأجر الجزيرة من ناظر وقف مدرسة التقوية لمدة 60 سنة ، وشرع في حفر أساس القلعة في يوم الجمعة 16 شعبان 6۳۸ ه. وفي العاشر من ذي القعدة بدأ هدم الدور والقصور والمساجد والكنائس ، التي كانت بالجزيرة . وتحول الناس عن السكني بالجزيرة . وقد هدم الملك الصالح كنيسة كانت للقبط بجانب مقياس النيل ، وأدخلها في القلعة التي شيد فيها الدور والقصور ، وعمل لها 60 برجا وأقام بها جامعا ، وغرس بداخلها أنواعا شتى من الأشجار ونقل إليها عمد الصوان من المعابد القديمة وعمد الرخام من الكنيسة ومن البرابي والكنائس من منف وبابليون وعين شمس ، وشحنها بالأسلحة والات الحرب ، وما يحتاج اليه من الطعام خشية من محاصرة الصليبيين له ، بعد أن استولوا على دمياط بقيادة ملكهم لويس التاسع ، عندما اعتزموا الزحف على القاهرة .
وكان الملك الصالح أيوب يشرف بنفسه على أعمال البناء ؛ حتى صارت تدهش الناظر بكثرة زخرفتها . ويقال إنه قطع في هذا المكان الذي أنشأ فيه القلعة ۱۰۰۰ نخلة مثمرة ، كان رطبها يهدي لملوك مصر لطيب طعمه ، وخرب الهودج و المختار. وهدم ۳۳ مسجدا ومصلى . وكانت مساحة هذه القلعة 65 فدانا أسند حراستها إلى المياليك من جنده ، وأطلق عليها اسم الماليك البحرية نسبة إلى بحر النيل وقلعة الروضة . وعندما عزم الصالح أيوب على بناء هذه القلعة الصالحية في الروضة ، كان النيل في الجانب الغربي فقط ؛ أي بين الروضة والجيزة . وكان قد انحسر عن برمصر الفسطاط ” ولا يحيط بالروضة إلا في أيام الفيضان . فقام الملك الصالح بإغراق عدید من السفن في البر الغربي تجاه باب القنطرة ، وحفر في البر الشرقي بين الروضة ومصر ” الفسطاط “، ورفع ما كان فيه من الرمال حتى عاد الماء إلى بر مصر وتعود الروضة إلى جزيرة يحيط بها النيل من كل الجهات ..وكانت الروضة – قبل الفتح الإسلامي – تتصل بساحل النيل الشرقي بواسطة جسر من المراكب . وكان هذا الجسر في القرن ۱۱ مكونا من 36 مركبة كما قال الرحالة الفارسی ناصر خسرو . فلما أنشأ الملك الصالح نجم الدين أيوب قلعة الروضة وحفر ما بين بحر الجزيرة الغربي وبر الفسطاط ، أنشأ جسرا عظيما يمتد من بر مصر إلى بر الروضة مكان الجسر القديم ، وجعل عرضه عشرة أمتار ونصف المتر عرف باسم جسر الملك الصالح . وفي قلعته هذه وداخل قصره الذي أقامه داخلها مات الملك الصالح ، واخفت زوجته شجرة الدر خبر موته حتى لاتتأثر الجيوش في حربها مع جيوش – الصليبيين ، وأرسلت إلى ابنه توران شاه ليعود سريعا إلى القاهرة من شمال سوريا ليصبح سلطانا على مصر .. بينما كان أكثر من 1000 مملوك للملك الصالح يقيمون في القلعة حول سلطانهم ، الذي نقل مقر الحكم من قلعة الجبل إلى قلعة الروضة .
••واستمرت جزيرة الروضة عامرة حتى تولى السلطة عز الدين أيبك التركمانی، الذي تزوج من شجرة الدر بعد زوال ملك الأيوبيين عام ۱۲5۰م ، فأمر بتخريب القلعه الصالحية ، وعمر منها مدرسة المعزية التي أقامها بمدينة مصر بمنطقة ” رحبة الجنه” واقتدى به غيره ممن هم ذوو جاه ، وبدأوا في خلع السقوف والشبابيك ليبنوا بها قصورهم ، وتم بيع أخشابها ورخامها في الأسواق .. الا أن الظاهر بيبرس – بحکم فكره وعصره العسکرى – أمر بإعادة تعمير القلعة باعاده بناء ما تهدم منها ، وعين عليها الأمراء المماليك ، لكل أمير منهم برج من الأبراج .وامر امراءه المماليك بأن يقيموا فيها ، وأن تكون بيوتهم كلها واصطبلاتهم بالقلعة . وسلم لهم مفاتيح القلعة وأبراجها ، وكان ذلك عام ۱۲6۰ میلادية . ومنح برج الزاوية للأمير سيف الدين منصور قلاوون الألفي ، ووزع بقية الأبراج على الأمراء المقربين منه ، ولذلك عرف هؤلاء المماليك بالمماليك البحرية نسبة إلى الروضة والبحر. وأمر بيبرس هؤلاء الأمراء ألا يغادروا القلعة ، ومن هنا اجتذبت الروضة العديد من الأهالي والباعة ، وأخذوا يسكنونها لتوفير الخدمات لسكان القلعة وجيشها .
ولكن لما تولى حكم مصر الملك المنصور قلاوون عام ۱۲۷۹م ، وشرع في بناء مارستانه والقبة والمدرسة المنصورية في النحاسين بالقاهرة ، أمر بهدم مبانی قلعة الروضة ونقل منها ما يحتاج إليه في مشروعه هذا من عمد الصوان وعمد الرخام التي كانت قبل بناء القلعة قد نقلت من البرابي والكنائس ، وأخذ منها رخاما كثيرا وأعتابا عديدة . بل إن ابنه الملك الناصر محمد بن قلاوون فعل مثل أبيه ، فنقل ما بقي من أعمدة ورخام وأحجار من قلعة الروضة ، واستعملها في بناء الإيوان المعروف بدار العدل في قلعة الجبل ، وبناء الجامع الناصري بالنحاسين بجوار مشروع والده الملك المنصور . ••وهكذا ذهبت قلعة الروضة كأنها لم تكن ، وبقي منها عقد جلیل تسميه العامة ” القوس ” ، كان على الجانب الغربي للقلعة ، وظل باقيا حتى عام 1417م ، وبقي من أبراجها الستين عدة أبراج ، ثم انقلب أكثرها ، وبني الناس فوقها بيوتهم المطلة على النيل . واختفت القلعة وبقي مكانها في المنطقة التي تحد اليوم من الشمال شارع الملك المظفر ، ومن الغرب نهر النيل ، ومن الجنوب سلاملك حسن باشا المناسترلى ومقیاس النيل ، ومن الشرق سيالة الروضة . وهذا السلاملك كان مكانه الجامع ، الذي أنشأه أمير الجيوش بدر الجمالى عام ۱۰۹۲م على النيل بجوار المقياس من الجهة الغربية ، وعرف بجامع المقياس . وظلت بقايا هذا الجامع قائمة إلى عام 1850م ، عندما أزال حسن المناسترلى تلك البقايا ، وبني هذا السلاملك في مكان جامع المقياس ، وهو قصر المناسترلى الحالي الذي تحول إلى أثر وإلى موقع للسياحة والنزهة ..
وظلت إحدى قاعات قصر الملك الصالح أيوب باقية تقاوم الزمن إلى نهاية القرن الثامن عشر ؛ حيث قدم لناج . ج مارسيل أحد علماء الحملة الفرنسية وصفا تفصيليا ومخططا دقيقا لها في الجزء الذي خصصه لدراسة جزيرة الروضة والمقياس من الكتاب الأسطورة «وصف مصر». .. ولا ننسى هنا أن نقول إن الملك الصالح نجم الدين أيوب استخدم في بناء قلعة الروضة عددا كبيرا من أسرى الإفرنج ” الصليبيين” ، الذين أسرتهم قواته بالشام وقسطين . ••وقبل أن ننهي حديثنا عن « الروضة » في العصور القديمة ، تعالوا لنلقي الضوء على ما قاله الرحالة والمؤرخون عنها ..
يقول المقريزى في خططه عند ذكر الروضة : ” الروضة هو اسم يطلق على الجزيرة الواقعة في النيل بين مدينة مصر”الفسطاط” وبين مدينة الجيزة . عرفت في أول الإسلام باسم الجزيرة وجزيرة الفسطاط .. وجزيرة مصر . ولما أنشيء فيها المقياس في عام ۲4۷ ه ، عرفت باسم جزيرة المقياس . وقال الكندی : وتعرف قدیما بجزيرة الصناعة ، لأنه كان بها دار الصناعة الخاصة بإنشاء وتعمير السفن و المراكب من عام 54ه إلى عام ۳۲۳ ه.. ووردت في المسالك لابن حوقل باسم الجزيرة ، وذكرها المقدسي في كتاب “أحسن التقاسيم ” فقال : الجزيرة ” خفيفة الأهل “، ويقع الجامع والمقياس على طرفها عند الجسر مما يلي مصر القديمة . وبها بسا تين ونخيل ومتنزه أمير المؤمنين عند الخليج “سيالة الروضة ” بموضع يسمى ” المختارة “. ولما تكلم عن مدينة الجيزة قال : ويلقي الخليج العمود ” أي النيل ” تحت الجزيرة عند المختارة» .
وذكرها الإدريسي في « نزهة المشتاق » فقال : ” ومن شاء الانحدار بطريق النيل من مصر القديمة إلى الإسكندرية خرج من مصر ا إلى جزيرة انقاش » .وفي نسخ أخرى منها وردت محرفة أيضا باسم انفاس وابقاس و العاس ، وكلها غلط – كما يقول محمد رمزي في القاموس الجغرافي – والصواب : جزيرة المقياس ، ثم قال : ومنها الى نبابة ” إمبابة “، وهما مدينتان بين شطى النيل كانتا برسم تربية الوحوش فيهما في مدة أحمد بن طولون . ووردت في “الانتصار ” لابن دقماق باسم الروضة ، وكانت في زمنه تابعة لمدينة مصر أي مصر القديمة . ولاتزال تعرف إلى اليوم باسم جزيرة الروضة . وفي دفتر المكلفة والمساحة باسم منيل الروضة ، وهي تابعة لمحافظة مصر في أعمال الضبط والصحة والقرعة العسكرية .. ولمركز الجيزة فيما عدا ذلك ، كما يقول محمد رمزى في قاموسه الجغرافي المطبوع عام 1945م .