شارع مارجرجس
شارع مارجرجس أشبه بمزار دینی سیاحی، صفحة تاريخية ارتبطت بجوهر الحضارة الإنسانية فبدت أقوى من عوامل التغيير البشرية والجغرافية، بل إن مرور الزمن يزيدها حضورا ورسوا ونصاعة. الشارع ضيق إلى حد ما، وغير مزعج بالمرة بالنسبة لشرطة المرور، هو فقط النقطة المقدسة لملايين البشر الذين يفدون إليه من كافة بقاع الأرض لأغراض متباينة، البعض يكتفي بالتجول في رحاب قلاعه الأثرية الدينية والبعض يتبرك بها، والبعض يأخذ من ترابه وأحجاره سفينة للإبحار في أعماق التاريخ المصري ومؤسساته ومبانيه عبارة عن مجمع للأديان، وسكانه الدائمون خدم له وأدلة ومساعدون ومستقبلون لضيوفه بالهدايا والتحف.
مارجرجس يبدأ من مشارف جامع عمرو بن العاص الذي يجري ترميمه منذ فترة طويلة، وينتهي عند أطلال حصن بابليون، وبين النقطتين تاريخ طويل وأحداث عظيمة هي مكمن تفرد الشارع، وريادته لشوارع القاهرة الكبرى على الإطلاق، فالحصن هو آخر قلاع الرومان في مصر، والجامع هو أول المنشآت الإسلامية في إفريقيا، وبينهما سلم القائد الرومانى مفاتيح مصر للقائد العربي الإسلامي، ومع مراسم التسليم بدأت أبجديات العربية لغة وحضارة وأسلوب حياة على أرض وادي النيل، وانتقلت مصر من ولاية رومانية مهملة ومستغلة إلى درة ثمينة في تاج الدولة الإسلامية الوليدة، وحولهما رفع الستار عن الفسطاط كأول حضارة إسلامية في مصر وإفريقيا، كما أن الفسطاط التي مازال الشارع يتنسم روائحها كانت حجر الأساس أو الحركة الأولى في لحن القاهرة الكبرى التي تعد الآن من أكبر مدن العالم من حيث عراقة التاريخ والاتساع وعدد السكان، فقد بنيت الفسطاط لتكون مدينة صغيرة للعسكر وبعد قرابة مائة عام توسیعت وظهرت على مشارفها ضاحية جديدة أو مدينة صغيرة هي القطائع التي بناها أول حاكم مسلم يعلن استقلال مصر وهو أحمد بن طولون، ثم ما لبثت هذه المدن الثلاث أن أصبحت من الناحية العملية مدينة تجارية واحدة هي الفسطاط أو مصر الفسطاط كما كان يسميها الناس.
أما الخطوة الرابعة في تطور الفسطاط فتتلخص في اتساع آخر نحو الشمال الشرقي، ترك مساحة كبيرة بينه وبين القطائع أو ضاحية أحمد بن طولون التي كانت قد تهدمت إلى حد كبير، حتى يتوفر الأمن والعزلة للخلفاء الذين كان ينظر إليهم أنصارهم نظرة التقديس والاحترام، وكان هذا الاتساع الذي بالغ في البعد عبارة عن مدينة القاهرة الأولى أو الفاطمية، غير أنها في بدايتها لم تكن الحاضرة التجارية بل كانت بمثابة قصر فخم وثكنات للجنود ومقر للحكومة بينما كانت الفسطاط حول الشارع سوقا للتجارة وأكبر مدينة للثقافة والأعمال، ومما يدلل على ذلك أن العديد من مؤرخي القرون الوسطى حينما كتبوا عن مصر «المدينة أو الحاضرة» لم يشيروا إلى القاهرة ولكن إلى الفسطاط أو «مصر الفسطاط، فبينما كان الأمير أو الخليفة أو السلطان يختار أية ضاحية يبنيها لنفسه ويحكم منها مثل العسكر أو القطائع أو حتى القاهرة الأولى، ظلت الفسطاط الحاضرة التجارية وأهم المدن، ففى جامعها العتيق الذي يقع على مشارف الشارع كان القضاة يصدرون أحكامهم، وفيها كانت تضرب نقود الدولة وفيها أقام عامة الشعب الذين لم يكن لهم اتصال بالقصر، لذلك فإن القاهرة لم تصبح عاصمة مصر بالمعنى الحرفي للكلمة إلا بعد أن أحرقت الفسطاط.
بدأت قصة الفسطاط والتاريخ العربي الإسلامي للشارع والمنطقة المحيطة بدخول جيش الفتح العربي بقيادة عمرو بن العاص، كان قوام الجيش لا يزيد على أربعة آلاف مقاتل، وبعد أن حاصر الفرما وبلبيس وقاتل الرومان في حي أم دنين الذي كان بالقرب من قصر عابدين الحالي هاجم حصن بابليون الروماني في نهاية الشارع، وكان هذا الحصن أحد امتدادات مدينة ممفيس أو العاصمة المصرية القديمة التي كانت لاتزال قائمة حتى ذلك الوقت، ولكن في شكل أطلال منهارة، وكانت تبعد عن موقع القاهرة الفاطمية باثنی عشر ميلا تقريبا، ودافع الرومان عن حصن بابليون دفاعا شديدا لدرجة أن العديد من المؤرخين ومنهم الأسقف يوحنا يقطعون بالقول بأن العرب لم يلقوا في فتح مصر أية مقاومة إلا حينما حاولوا الاستيلاء على الحصن الذي كان بمثابة القلعة الأخيرة للمحتل، واضطر عمرو بن العاص إلى طلب المدد حتى بلغ جيشه اثنی عشر ألفا قبل أن يتمكن من فتحه. .
فتح حصن بابليون الذي يتوج نهاية شارع مار جرجس الذي انترع مصر من براثن الاحتلال الروماني، وتمخض عن معاهدة الصلح التي أبرمها عمرو بن العاص وشهد عليها الزبير بن العوام وولداه عبد الله ومحمد وبمقتضاها ضمن أهل مصر حرية الدين وسلامة أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم وأرضهم ومائهم.
استسلام حصن بابليون بغض النظر عن الحصار العسكري ارتبط بالمقوقس حاكم مصر، لدرجة أن العديد من المؤرخين يؤكدون أن المقوقس هو الذي اقترح معاهدة الصلح التي أبرمها عمرو بن العاص، وعندما رفضها الإمبراطور هرقل البيزنطى تمسك المقوقس بكلمته وانضم إلى صف العرب الفاتحين الذين كان الشجاعتهم وحماستهم أثر بالغ في نفسه، ومما يروى في هذا السياق أنه عندما عاد الرسل الذين أرسلهم إلى معسكر المسلمين أثناء الحصار سألهم عن حالهم فأجابوا رأينا قوما الموت أحب إليهم من الرفعة، ليس لأحد منهم في الدنيا رغبة، وإنما جلوسهم على التراب، وأكلهم على ركبهم، وأميرهم كواحد منهم، لا يعرف رفيعهم من وضيعهم، ولا السيد منهم من العبد، وإذا حضرت الصلاة لم يتخلف عنها أحد، يغسلون أطرافهم بالماء ويخشعون في صلاتهم، وفي ذلك الوقت كان المصريون يعانون ظلم واضطهاد وفساد الإمبراطورية الرومانية، أضف إلى ذلك اضطهاد الكنيسة الأرثوذكسية لهم، ومما يدلل على ذلك رمی الأساقفة المصريين بالإلحاد، وأصبح الانقسام لا مفر منه، ومن ثم أصبح منذ ذلك الحين في مصر كنيستان الأولى كنيسة الدولة أو المحتل «مذهب الروم الأرثوذكس، وتؤيدها القسطنطينية ويطلق عليها الكنيسة الملكية، والثانية الكنيسة القومية وقد أطلق عليها فيما بعد اليعقوبية وتعرف عادة بالكنيسة القبطية، وأدى تمسك الأقباط بعقيدتهم إلى وقوعهم في براثن الاضطهاد والتعذيب والعزلة، لذلك وجدوا في الفاتحين إنقاذا لهم فارتموا في أحضانهم فارين من نير المستعمر الروماني، وعملوا بنصيحة بطريقهم الذي كان منفيا ومدوا يد المساعدة للعرب منذ اللحظة التي وطئت أقدامهم فيها أرض مصر، وبعد معاهدة الصلح عمل الأقباط مع الفاتحين وكانوا يعاونونهم معاونة صادقة في بناء الجسور ومدوهم بكل ما يحتاجون إليه في بناء مصر الإسلامية.
اليمامة بعد فتح حصن بابليون خرج عمرو بن العاص من أرض الشارع لفتح الدلتا ثم الإسكندرية التي سرعان ما استسلمت لشروطه وبمجرد أن عاد منها ظافرا إلى أرض الشارع بدأ تأسيس مدينة الفسطاط، لأن ميناء الإسكندرية الذي كان العاصمة الرومانية لمصر لم يكن مناسبا لاحتضان حاضرة للقبائل العربية التي أدت طبيعتها البدوية إلى الابتعاد عن البحر، فضلا عن أن الإسكندرية كانت معرضة في موسم فيضان النيل لأن تصبح في عزلة عن باقي أراضي مصر، كما أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يحرص على الاتصال الدائم بالجيش الإسلامي في مصر، لذلك عندما أراد عمرو بن العاص أن يتخذ من الإسكندرية عاصمة لمصر الإسلامية وأرسل لأمير المؤمنين يستأذنه سأل عمر بن الخطاب رسول عمرو «هل يحول بيني وبين المسلمين ماء؟» فقال الرسول نعم يا أمير المؤمنين إذا جرى النيل» فأصدر أمره إلى عمرو بن العاص بأن يترك الإسكندرية ويتخذ موقا أكثر توسطا، فعاد ابن العاص إلى أرض شارع مار جرجس وبدأ تأسيس الفسطاط أمام حصن بابليون.
ومما يروى عن سبب تسمية مدينة الفسطاط بهذا الاسم أن عمرو بن العاص حينما قاد قواته إلى حصن بابليون أقام فسطاطه حول المكان الذي يقع فيه جامعه الآن، وبعد سقوط الحصن بدأ استعداداته للرحيل إلى الإسكندرية، غير أن الجند عندما ذهبوا ليقوضوا فسطاطه وجدوا يمامة قد باضت في أعلاه فقال عمرو «لقد تحرمت بجوارنا، وأمرهم بأن يبقوا الفسطاط حتى تطير فراخها، وبعد فتح الإسكندرية والعودة إلى مشارف شارع مار جرجس أخذ الجند يختطون منازلهم حول هذا الفسطاط، وهكذا ظهرت أولى المدن العربية في مصر، وكان الفضاء يمتد بين النيل وجبل المقطم حيث تقوم قلعة صلاح الدين الأيوبي حاليا، فلم يكن هناك سوى بعض المزارع، كما لم يكن من المباني سوى بعض الكنائس التي مازالت باقية في أرض الشارع حتى هذه اللحظة بجوار حصن بابليون أو باب آليون الذي كان يسميه العرب «قصر الشمعه وهو الاسم القديم للشارع قبل مارجرجس، وكان هذا القصر كما يقول المقريزى «يوقد عليه الشمع في رأس كل شهره في قلب الفسطاط اختط عمرو بن العاص داره، وبجوارها بني أقدم جامع أقيم في مصر وهو جامع الفتح» وتاج الجوامع كما وصفه المصريون لحظة تشييده، غير أنه ما لبث أن أطلق عليه اسم الجامع العتيق، ثم جامع عمرو الذي مازال يتوج المنطقة حتى الآن.
جامع عمرو في البداية كان عبارة عن غرفة مسطحة مستطيلة جدا وقد بني من الأحجار، وكان سقفه منخفضا جدا أقيم على أعمدة وتخللته بعض الثقوب الدخول الضوء، ولم تكن به مئذنة أو مقصورة للصلاة، وحتى المنبر الذي اتخذه عمرو بن العاص سرعان ما أزاله بيديه حيث كتب إليه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يوبخه «أما بحسبك أن تقوم قائما والمسلمون جلوس عند عقبيلك؟»
بعد إتمام الجامع أذن عمرو بن العاص للقبائل العربية بأن تختط حوله منازلها وعهد بتنظيم ذلك إلى معاوية بن خديج، وكانت كل قبيلة منعزلة عن غيرها، وامتدت الخطط من نهر النيل في الغرب حتى عين الصيرة في الشرق ومن جبل يشكر في الشمال حتى اسطبل عنتر في الجنوب، كما التصقت الخطط بالجامع وقصر الشمع الذي كان يطلق اسمه على الشارع إلى فترة
قريبة.
وقيل إن أول من بنى غرفة بالفسطاط هو خارجة بن حذافة، وعندما بلغ عمر بن الخطاب أمرها، كتب إلى عمرو يقول «ادخل غرفة خارجة وانصب فيها سريرا وأقم عليه رجلا ليس بالطويل ولا بالقصير فإن اطلع من كوتها على عورات جيرانه فاهدمها»؟ ففعل ذلك عمرو ولكن لحسن الحظ وجدها غير ضارة فأقرها، وأخذت البيوت تتسع حول الحصن والجامع وأرض الشارع، كما أخذت عمارة المدينة الوليدة تزدهر وتتطاول حتى فاقت مدينتي البصرة والكوفة.
لكن في تاريخ الفسطاط وشارع مار جرجس نقطة فاصلة فقد تحولت معظم منشآتها إلى رماد نتيجة للحريق الهائل الذي جاء بفعل فاعل، وذلك عندما غزا عموري ملك بيت المقدس الديار المصرية، فلما عجز القائد الفاطمي شاور. عن الدفاع عن الفسطاط أمر بإخلائها وحرقها؟ يقول المقريزی «بعث شاور إلى مصريقصد الفسطاط» بعشرين ألف قارورة نفط وعشرة آلاف مشعل نار فرغت فيها فارتفع لهب النار ودخان الحريق إلى السماء فصار منظرا مهولا». واستمرت النار تأتي على مساكن مصر «الفسطاط» أربعة وخمسين يوما، غير أنه بعد حوالي ثلاث سنوات فقط أعاد صلاح الدين الأيوبي الحياة مرة أخرى إلى الفسطاط وجمعها بالقاهرة في سور واحد، وجدد جامعها العتيق وأعاد إليها نشاطها التجاري.
يبدأ شارع مارجرجس من نهاية شارع حسن الأنور وروائع جامع بن العاص بمبنى جمع الأديان، الذي يحافظ على طراز العمارة القديمة، وهو عبارة عن مركز تجاري حيث تم ترميم البيوت القديمة التي تواجه المنشآت الدينية في الشارع بشكل يتناسب مع قداسة المكان وعراقته.