مراد باشا وشارع ديجول
مراد باشا وشارع ديجول
شارع “شارل ديجول ” وامتداده شارع ” مراد ” هو علامة الجيزة وبؤرة تاريخها القديم والحديث وشريانها الأهم ، يبدأ بظلال الحضارة الفرعونية الكامنة في نقطة بداية
شارع الهرم ويلفظ أنفاسه الأخيرة داخل ظلمات نفق العجوزة تحت ثقل أقدام الحضارة المتجسدة في فندق شيراتون القاهرة وأمام العيون الدامعة لكوبري ميدان الجلاء.
امتداد الشارع مازال شاهدا على معارك شهيرة وحامية بين الفرنسيين والمماليك الى رحيل الفرنسيين نهائيا عن مصر واندحار المماليك على يدي محمد على باشا ، كما
أدت حديثا الى انقسام الشارع الى اسمين متناقضين كل منهما يحفظ للصراع القديم هيبته وتاريخه وفي نفس بعد محاولة للمصحلة بين خصمين لدودين تحت التراب بعد أن
فشلا في ذلك في الحياة الدنيا الأول مراد» الزعيم الأكبر للمماليك والاخر شارل ديجول مؤسس فرنسا الحديثة. وغم أن شارع مراد ” وامتداده “شارل ديجول ” طوال
التاريخ المصری کان بسبب مجرى النيل منفصلا جغرافية عن بؤرة الحكم في مصر الا أنه في نفس الوقت كان دائما يتراقص في مخيلة كافة الحكام باعتبار أرضه
مصدرا للخير وسكانه مصدرا للقلاقل ، فقيل الفتح العربي والاسلامي لمصر كانت نهايته من ناحية ” مراد ” جزءا من منطقة الجيزة القديمة التي كانت عامرة بالاسواق
والحوانيت ومزدحمة بالتجار وارباب المهن المختلفة فقد كانت كما روى العديد من المؤرخين المكان المفضل للتجار البن والحرير والعقاقير والجزارين والخضرية.
وعندما فتح عمرو بن العاص مصر عبرت بعض القبائل العربية الى غری النيل واستقرت بالجيزة وتحديدا بالقرب من المنطقة التي يتهادى فوقها الشارع الان ومع
اعتدال مناخ الجيزة وكثرة خيراتها أصرت القبائل على عدم مغادراتها مخالفة بذلك أوامر عمرو بن العاص الذي اضطر امام تمسكهم بالقباء خصوصا قبائل ” همدان ويافع
” الى استشارة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في امرهم فرد عليه ابن الخطاب ” كيف رضيت أن تفرق عنك اصحابك وتجعل بينك وبينهم بحرا لا تدري
ما يفجؤهم فلعلك لا تقدر على غياثهم فأجمعهم إليك ولا تفرقهم فإن أبوا عليك وأعجبهم موضع بالجيزة وأحبوا ما هناك فابن عليهم من فيء المسلمين حصنا ” فاندفع عمرو
بن العاص إلى بناء الحصن ولكن القبائل رفضت الإقامة به فنظرا لطبيعتهم الصحراوية القاسية اعتبروا التوارى خلف اسوار الحصن إهانة لكرامتهم وقوة بأسهم وقالوا ”
لا حصن أحصن لنا من سيوفنا ” هذا الحصن بالطبع تلاشي على المستوى المعماري من الوجود ولم يبق منه سوى اسمه المخطوط على لافته أحد الشوارع او الحواري
القصيرة الموصلة بين الشارع ونهر النيل .
ومما يروى عن الشارع أن المعتصم بالله منح كبير النوبة زکریا بن بخنس واحدة من أفخم الدور التي كانت تقع بالقرب من الشارع وتلك المنحة السخية كانت نهاية طيبة
لصراع دام بين العرب والنوبيين بدأ بامتناع النوبيين عن تأدية فريضة ” القبط ” وهي عبارة عن ضريبة فرضت منذ أيام عمرو بن العاص على سباياهم الذين كانوا
يبيعونها في القاهرة وهذا المنع واجهة والاة بغارة كبيرة عليهم وكذلك بتطبيق حصار قاس منع عنهم كافة البضائع أو امام ذلك كاد كبير النوبة زکریا بن بخنس يوافق على
معاودة دفع ” القبط ” لوالى مصر غير ان ابنه فرقی واتهمه بالعجز والجبن وطالبه باعلان الحرب على المسلمين فاضطر الى أن يسايره وقال له ” هذا شيء راه السلف
من ابائنا صوابا واخشى ان يفضي هذا الأمر اليك فتقدم على محاربة المسلمين غير أني اوجهك الى ملكهم رسولا لترى حالنا وحالهم فإن رأيت لنا بهم طاقة حاربناهم على
خبرة وإذا رأيتهم أقوى فاسأل أميرهم الإحسان إلينا..
فخرج فرقي ابن كبير النوبة الى بغداد والتقى بالمعتصم فصعق من كثرة الجيوش وعظم العمارة ، ولكي يخفف المعتصم من خوفه قربه إليه وكافأه ولبي كل طلباته وأمر
بأن يمنح والده أفخر دور الجيزة في ذلك الوقت ، كما منح سبعمائة دينار وفرسا وسرجا ولجاما وسيفا محلى وثوبا مثقلا وعمامة من الخز فعاد من ذلك مقتنعا بحكمة والده .
كبير النوبة . التي ترى أن محاربة المسلمين نوعا من الجنون ، ودخل الجيزة في موكب ضخم قيل إنه مر من المنطقة التي تحتلها نهاية الشارع الان . . .. .. .. . –
بعد رحيل قوات الحملة الفرنسية عن مصر وتنصيب محمد على باشا والية عليها كانت المنطقة التي يشقها أول الشارع الان على موعد مع أحد الفصول الأليمة لنهاية
المماليك فكما يقول ” الجبرتي ” فإن إبراهيم بك الكبير زعيم أمراء المماليك عندما قدم من الصعيد هو وقواته واتباعه لعقد الصلح مع محمد على نزل بالجيزة وكان معه
عرب هوارة وكان ذلك في يوم الثلاثاء 11 ربيع الثاني عام ۱۲۲۰ ه ولم تطلق المدافع كالعادة لأمراء المماليك فاغتاظ إبراهيم بك وقال بحسرة ” يا سبحان الله ما هذا
الاختقار ألم أكن أمير مصر نيفة وأربعين سنه وتقلدت وزارتها وولايتها مرارا وفي الاخر صارمحمد على من اتباعي واعطيته خرجه من كلاری ثم أحضر أنا واتباعي
وباقي الامراء على صورة الصلح فلا يضرب لنا مدفعأ كما يفعل لحضور بعض الأفرنج” . هذا الصلح كما هو معروف فشل على ارض الجيزة بسبب اتساع الفجوة بين
شاهين بك مندوب محمد على الذي ارسله للجيزة وإبراهيم بك ، فالاول حسب أوامر الباشا أصر على تسليم المماليك لكامل أسلحتهم، والاخر لم يجد بديلا عن مشاركة محمد
على في حكم مصر لذلك لم يتمخض حوارهما داخل أحد قصور الجيزة سوى عن خطبة مؤثرة ألقاها إبراهيم بك على مسامع شاهين بك وعدد فيها افعال محمد على ضد
المماليك ، فضلا عن أنها يمكن اعتبارها ايذانا ادبية بنهاية عصر المماليك في مصر الى الابد .. فقد قال فيها مخاطبة الباشا في شخص مندوبه : واعلم يا ولدي اننا كنا
بمصر نحو العشرة الاف أو اكثر ما بين مقدمي الوف وامراء ومماليك واجناد وطوائف وخدم واتباع وكنا مترفين منعمين بكل متع الحياة ، وكل أمير منا كان مختصة
بإقطاعه مع كثرة مصارفنا وانعامنا على اتباعنا ومن ينسب الينا ، واسمطة الجميع ممدوة في اوقات معهودة ولا نعرف عسكرة ولا علوفه عسكر مع من كان يلزمنا من
المصاريف الميرية ومرتبات الفقراء وخزينة السلطات وصرة الحرمين والحجاج وعوائد العرب وكلف الوزراء والاغوات والهدايا السلطانية وغير ذلك حتى صار كل
فرع بإيراد اقليم ومع ذلك يمنع عنا ما نتعيش به وعيالينا ومن بقي من اتباعنا وممالكينا بل قصد الى صيدنا وهلاكنا عن آخرنا..
محمد على باشا اهتم بالمنطقة المحيطة بالشارع ونقل بالقرب منها مدرسة السواری مما شجع بعد ذلك بعض امراء الاسرة المالكة بأن يرضعوا حوافه القريبة بقصورهم ،
وعندما قامت ثورة يوليو ۱۹۵۲ حاولت أن تخفف العبء المروري عن الشارع بأن أقامت عام ۱۹۰۷ كوبرى الجامعة الذي يعد أول كوبری في مصر يقام بطريقة اللحام .
أما الرئيس السادات فقد وصل بالاهتمام بالشارع الى الذروة لدرجة انه حاول أن يجعله بؤرة الحكم في مصر، فنقل اقامته الدائمة في احد القصور القريبة وبين اركانها فكر
السادات في العديد من قراراته والتقى بالعديد من الرؤساء ومنهم العقيد القذافي الذي مر بالشارع والتقى فيه بالسادات مرات عديدة كانت اخرها كما قال محمد حسنين هيكل
في إحدى مقالاته «بداية الانقطاع العلاقة بين القذافي والسادات إلى الابد».
يبدأ الشارع الآن من ميدان الجيزة عند بداية شارع الهرم بمكتب بريد الجيزة وكشرى عماد الذي ينافسه على الواجهة كشرى الخديوية ومكتبة سمير وعلى التي يجلس
أمامها بشكل دائم شاب يبيع الساعات ويبدو حانقة على أسرة كاملة من المتسولين تزاحمه على واجهة الشارع .
كنيسة المطرانية تتميز بعمارتها القبطية العريقة داخل الشارع وبالقرب منها كان يقع مقر مجمع اللغة العربية أو مجمع الخالدين قبل أن ينتقل الى مقره الحالي في الزمالك
وفي هذه المنطقة يوجد ايضا بنك قناة السويس الذي يواجه بنك الاستثمار العربي وبعدهما مباشرة ينتهي شارع مراد أو الجزء المخصص للمماليك في الشارع ليفسح
المجال لبداية الجزء المخصص للتاريخ الفرنسي، أي شارع شارل ديجول بناصية الشارع الذي يحمل اسم الحصن الذي بناه عمرو بن العام للقبائل العربية ، ومن الجهة
المقابلة تظهر اول حديقة انشئت في مصر على الطراز الحديث وكانت قبل انتقالها للشارع تقع في قصر الجزيرة الذي بناه الخديو اسماعيل وكانت محاطة ببستان يحرسه
سور عال وقد جلب إليها اسماعيل من كافة بلدان العالم ۷۰ نوعا من الحيوانات الغريبة و ۱۵۰ نوعا من الطيور النادرة ، وكانت طرقاتها مفروشة بالرمل والزلط الملون
ومضاءة بمصابيح الغاز كما كانت مقسمة الى اشين وثلاثين قسمأ ، تبعا لفصائل الحيوان ونقلت الى الشارع في نهاية القرن ۱۹ بعد أن زيدت انواعها لتصبح ۱۸۰ نوعا
من الحيوان و ۳۱۵۰ من الطيور و ۳۱۲ من الزواحف ومكانها الحالي في الأصل كان جزءا من حديقة سراي الجيزة الشهيرة التي كانت تتميز بمبناها الأسطوری
وحديقتها التي لم يكن لها مثيل ولم يبق منها الا الجزء المواجه لسور حديقة حيوان الجيزة .
في مواجهة سبور حديقة الحيوان من الجهة الأخرى من الشارع تطل مدرسة الجيزة القومية وبرج الجيزة الاداري في مبناه الذي يشبه ناطحات السحاب وواجهته الزجاجية
وفي رقم ۲۹ من الشارع تستقر سفارة فرنسا في مبنى شديد البساطة والاناقة وهذا المبنى كان في الأصل مملوكة لبطرس باشا غالي رئيس وزراء مصر الذي اغتاله
إبراهيم الورداني عام ۱۹۱۰ وبعده أفخم المراكز التجارية فيرست مول ثم قصر الاليزية للحلويات وحديقة مملوكة للمواطن أحمد جمال الدين الذي نظرا لندرة الأرض
الفراغ في الشارع اضطر لان يعلق على واجهتها لافته تهدد أي واحد يقترب منها بالقضاء.
الشارع فضلا عن منشأته يتميز بأشجاره الضخمة والعجوزة التي ترجع الى ايام الملكية وتسوطنها الآن ربما لوجود حديقة الحيوان طيور ابو قردان وفي نهاية الحديقة
يتسع الميدان الذي يتوسطه تمثال نهضة مصر الذى صممه الفنان الرائد محمود مختار عام ۱۹۳۸ وإن كان هذا التاريخ يفتقر الى الدقة ، فقد حفر بشكل عشوائي لم يبين
تاريخ نصب التمثال في الميدان أو اسم الحاكم الذي أمر بنصبه .
الميدان يفتح على كوبرى الجامعة الذي يئن تحت ثقل السفارة الاسرائيلية التي تحتل أعلى طابقين في العمارة المجاورة له ، وعلى الناحية المقابلة منه زاوية حديقة
الأورمان التي انشئت في عام ۱۸۷۵ حسب تصميم مهندس قيل أنه صمم قبلها حدائق باريس وهى تحتوى حتى الان على مجموعة من الأشجار و نبابات الزينة النادرة .
باقي الشارع من مديرية أمن الجيزة وأمانة الحزب الوطني الديمقراطي كان مغمورة بمياه النيل قبل أن يستقر في مكانه الحالي عام ۱۸۷۰ ومن أهم معالمه مدرسة اسماء
فهمي للتعليم الأساسي والجمعية النسائية لرعاية أسر الشهداء والمقاتلين بمبناها المتواضع الذي يبررتمامأ إعلانها على ناصية الشارع من استعدادها لتلقى أى تبرعات أو
هبات .
محطة مياه الجيزة تقع على واجهة الشارع داخل مبنى يعود الى عهد الاحتلال الانجليزي لمصر ، وتواجهها لافتة تعلن أن مكتبة مبارك على بعد خطوات وبعدها دار
مخصصة للمدرسين الأجانب في مدرسة الحرية للغات ثم مبنى مجلس الدولة ومقر السفارة الروسية الذي يجاروه متحف محمد محمود خليل وحرمه وداخل القصر الأنيق
الذي اوصي محمود خليل وحرمه بأن يؤول الى الدولة بعد وفاتهما عدد من أشهر اللوحات العالمية وقد جمع محمود خليل وحرمه محتوياته من كنوز الفن التشكيلي في
العالم على مدى أربعين عاما وهي عبارة عن تنويعة نادرة من المدرسة التشكيلية الفرنسية والمدرسة الواقعية بجوار أعمال بودان ومونيه ورينوا وبيسارو وفان جوخ
بالإضافة أي العديد من أعمال رواد الفن التشكيلي الانجليز والتشكيك والطليان والمصريين فضلا عن أعمال النحت من مختلف المدارس العالمية. : وبالقرب من المتحف
تطل واجهة جمعية نهضة المرأة في مبنى عتيق يضم دارا للمغتربات وحضانة ويجاروه قسم شرطة الدقي الذي يقع داخل قصر تدل لأناقته واتساع حديقته على أنه كان
مملوكا لأحد الإقطاعيين قبل ثورة يوليو ۱۹۲۲ وبالضبط أمام واجهة فندق شيراتون القاهرة ومدخل نفق العجوزة يلفظ الشارع أنفاسه الأخيرة .
